عزوف الرجال عن الزواج قرار اختياري لا يخلو من الندم |
يتأففون
حين يسمعون صراخ الأولاد الصغار، وهم في أماكنهم الخاصة بعيداً عن كل ما
يوحي بالأجواء العائلية، أو منخرطون في الأجواء العائلية في محيطهم
ويعوّضون النقص عندهم بالاهتمام بأولاد إخوانهم وأخواتهم وأصدقائهم.. إنهم
الرجال الذين يختارون طريق العزوبية ويبتعدون عن أي مشاريع لتزويجهم أو
لمجرد الإيحاء لهم بضرورة الزواج، وثمة من يقول “نحن ندّعي أنّه خيارنا
ولكنّه كان ظرفاً طارئاً أو رفضاً من الطرف الآخر أو نصيبنا الذي ارتضيناه
لأنفسنا.. نحمي أنفسنا عبر الإدعاء بأننا قررنا عدم دخول القفص الذهبي”..
هل
بوسعنا القول إن الرجل عانس؟ بما أن الفتاة التي تتجاوز سن الزواج يشار
إليها بالعانس.. ونظرات الشفقة تلاحقها وإن كان هذا هو خيارها في
الحياة..؟ ولكن السؤال اليوم عن هؤلاء الرجال الذين يعكفون عن الزواج
برغبة منهم أو اضطراراً ويكبرون في السن وحيدين تحيطهم عائلات أخوانهم
وأخواتهم وأصدقائّهم وحتى زملائهم في العمل، بحيث أن كل رجل بات لديه
ثلاثة أولاد أو أكثر وهو بقي وحيداً، وقد تعوّد هذا النمط في حياته وتأقلم
عليه.. لا بل بات يزعجه الجوّ العائلي المحيط في معظم الأحيان.
من دون إزعاج
سامر
ن. يجد أن حياته سهلة مقارنة بحياة شقيقه المتزوّج، ويقول “أستفيق من دون
أي ازعاج واتحضّر للعمل على مزاجي ولا أحد يتحكّم بي أو بوقتي أو يطلب مني
أي شيء غير الذي أطلبه من نفسي. إذا تأخرت في العمل فلا مشكلة ستواجهني في
المنزل، بينما أخي تقوم الدنيا حوله خصوصاً إذا وعد الأولاد بزيارة المول
والتسوّق أو تناول الطعام في الخارج.. لا أتلقّى اتصالات من الزوجة تقول
هذا وذاك وتطلب أشياء آتي بها في طريقي.. أشعر بالراحة إلى درجة تجعلني
أحار فعلاً لو فكّرت بالزواج في يوم من الأيام، وأفضّل تأسيس مهنتي
والتقدّم فيها من دون أن يتشتّت اهتمامي بأمور أخرى”.
محمد
ج. يعترف بأنه ليس من النوع الذي يحب اتخاذ المبادرات، ويفضّل أن تقوم
الفتاة بمبادرة لكي يتقدّم للزواج منها. ويقول “لقد سعت أمي وخالتي
لتزويجي أكثر من مرة ولكن شعوري بأن من اخترنها زوجة لي ليست من النوع
المبادر بشكل عام في الحياة، يجعلني أتردّد”. وربما يحتاج محمد إلى تشجيع
أكثر كي يخطو نحو الحياة الزوجية بثقة، وهو ليس من النوع الممتنع عن
الزواج.
فتاة الأحلام
نزار
ن. يرى أنه لن يقدم على الزواج إلا بعد أن يلتقي بفتاة أحلامه، ويقول “لا
أريد أن أتزوج لمجرد الزواج، ومع أنني تجاوزت الأربعين أقولها بقوة “لن
أتزوج إلا فتاة أحلامي”. وهل سيجد فتاة أحلامه، يرى نزار أن هذا ليس
بالصعب لأنه حقق نجاحا لا بأس به في مهنته وبات في مركز مرموق وهو مرتاح -
وفضّل أن لا يصف وضعه بالثراء - وأي فتاة تتمنى الزواج به، ويقول “ليس بي
ما يمنع فتاة أحلامي لو وجدتها عن القبول بي”. محمد ج. بدوره، يقول إن لا
ينقصه شيئا، وهو أيضاً ينتظر أن يجد الفتاة التي تحثّه على الزواج
بأسلوبها المبادر، ولكن الضغط يتزايد على محمد ونزار على السواء من الوالد
والوالدة ومن المحيط بشكل عام. ويقول نزار “ينظرون إليّ كأن شيئاً ما
ينقصني، ومنهم من يقول لي الحمد لله أنك نجحت في مهنتك بشكل رائع ولا
ينقصك إلا تكوين عائلة”، ويقول محمد “لا يمرّ أسبوع إلا وأسمع كلاماً حولي
عن الزواج، ويقولون أحياناً أنّه عليّ أن أخاطر وإلا لن أتزوج وأنجب
الأولاد طوال حياتي وسيمرّ العمر لأجد نفسي في كهولتي وحيداً.
هذا قدري
خميس
ك. يعلن على الملأ أنه لا يريد الزواج أبداً، فحبّ حياته بعيدة المنال وقد
زوّجها أهلها لابن عمّها قسراً ورفضوه كزوج لأسباب تتعلّق بالعائلات.
ويقول “أعرف أنها سعيدة الآن ولا أتمنى لها سوى السعادة، ولكن لا أستطيع
التفكير بأن تكون لي زوجة سواها قد أظلمها كوني لا أحب سوى امرأة واحدة...
وأشعر أن الزواج من دون حب وتفاهم لا معنى له، وهذا قدري”.
ويضحك
خميس قائلاً “المجتمع قاس في بعض الأحيان ويضعك في خانة التحدي، فإذا لم
يتزوّج الرجل في سنّ معينة يبدأون بترجيح الأسباب وفق مزاجهم، وقد تناهى
إليّ قول البعض بأن لديّ مشكلة صحيّة وطبية تحول دون تمكنّه من الزواج.
وقد ضايقني هذا الأمر وكدت أقدم على خطوة الزواج كي أثبت للجميع بأنني لا
أعاني من شيء ولكن لن أضحي بنفسي من أجل أحد”. ولكن هذا لا يمنع بأني أشعر
بنفسي غريباً في مجتمعي، خصوصاً في الأعياد والمناسبات الاجتماعية، حيث
تكثر الأحاديث عن العائلة، وأنا لا أملك سوى الحديث عن عملي، وعن “الطقس”،
يقولها ضاحكاً.
اعتاد
خميس العيش وحيداً ولا يلتقي بأفراد عائلته إلا في العطل الأسبوعية
والأعياد، ويسعى في غالب الأحيان لتمضية إجازته مع أصدقاء له في الخارج،
يسافر كثيراً ولا يحرم نفسه من شيء فهو يعيش في رخاء اقتصادي ويقول “لا
ينقصني أي شيء، وأنا مرتاح من الهمّ والغمّ ومسؤوليات الزواج التي تؤخر
الإنسان عن التقدم في حياته المهنية وتأخذ الكثير من وقته”. ويضيف “أشعر
بأن أخواني ينزعجون مني خصوصاً إذا صرخت في وجه أولادهم كي يكفّوا عن
اللعب والصراخ حولنا، حين نكون جالسين في مجلس الوالد نتناول الطعام أو
نتسامر”. يشير إلى أنه، وبسبب نجاحه، يلجأ الكثير من أفراد العائلة إليه
للمساعدة، أحياناً في شؤون معنوية وأحياناً أخرى في أمور مادية.. وفي
الغالب تكون أموراً مادية”.
الأسباب متعدّدة
يقول
الدكتور أحمد عمّوش، متخصص في علم الاجتماع وعلم النفس، وعميد كلية الآداب
والعلوم الانسانية والاجتماعية في جامعة الشارقة، إن المتخصصين يستخدمون
اليوم تعبير تأخر سنّ الزواج وليس تعبير العنوسة، وإن العنوسة مفهوم
تقليدي وتطال الفتاة أكثر من الرجل، ولكن ظاهرة تأخر سن الزواج أصبحت
ممتدّة في المجتمعات العربية، خصوصا أن من لا يتزوّج لا يبق مقيماً مع
والديه إنما يستقل في منزل خاص به ويعيش وحيداً من دون زواج.
ويشير
إلى أنه، ووفق دراسة شارك في إعدادها، ازدادت نسبة تأخر سن الزواج في
مجتمعاتنا العربية في السنوات العشر الأخيرة، والأسباب متعدّدة وأبرزها
الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي وانشغال الشباب بشؤون وأمور تتعلّق
بالمنظور الاقتصادي كالتركيز على النجاح في العمل، بينما كانت الاتجاهات
في السابق تصب في منظومة وقيم الزواج كمعيار لنجاح المرء في مجتمعه.
ويقول
عمّوش “يتعلّم الشاب اليوم ومن ثمّ يسعى لتعليم أعلى وأعلى ولم يعد الزواج
أولوية بالنسبة إليه، وتغيّر متوسط سنّ الزواج من سن الـ 19 عند الشباب
إلى سن الـ 25 سنة. ويرى الدكتور عمّوش أنه مع تأخر الشاب في الزواج،
وتجاوزه لسنّ الـ25 من دون التفكير في الزواج، تصبح مسألة الزواج عنده
ليست من ضمن الأولويات، ويحلّ اهتمامه بمهنته وبنجاحه الاقتصادي محلّ
الاهتمام بتكوين عائلة.
تكافؤ اجتماعي واقتصادي
لا
ينفي الدكتور عمّوش أن عدم الزواج أو تأخر سنّ الزواج يعدّ نقصاً
اجتماعياً ولكن ليس بالحدّة التي كان فيها المفهوم الاجتماعي حيال الزواج
في السابق، ويقول “ثمة من يلجأون إلى الزواج للتخلص من الضغط العائلي
والاجتماعي، ولكن هذا ليس أساس الزواج الذي يجب أن يقوم على رابط معنوي
يتعلق بالأحاسيس والرغبة الذاتية الفعلية بالزواج. ويرى أن الزواج ليس
رابطاً اجتماعيا بقدر ما هو رابط معنوي بين زوجين يجب أن يتحقّق فيه تكافؤ
اجتماعي وأحياناً اقتصادي بين الزوجين، وإلا كان عرضة للفشل. ولا يحبّذ
الدكتور عمّوش الزواج لتحقيق مظهر اجتماعي لائق أو مقبول به عند الآخرين،
لأن الزواج يقوم على ما هو أهمّ من ذلك بكثير.
وعن
التغييرات في المنظومة القيمية لدى المجتمع لجهة موضوع الزواج وتكوين
أسرة، يشير الدكتور عمّوش إلى أن النجاح والفشل عند الفرد كان يقاس
بالزواج وتكوين الأسرة في حين أنه أصبح اليوم مرتبطاً بنجاح الفرد أو فشله
في عدة ميادين، وقد يتقدّمها ميدان العمل والظرف الاقتصادي.