رحلة في تدبر سورة البقرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
ولم يجعل له عوجًا، والحمد لله الذي جعل هذا القرآن هدى للمتقين (إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء) هذا كتاب
الله عز وجل هو المعجزة الكبرى والمعجزة الخالدة إلى يوم الدين. أيها
الإخوة الفضلاء لعلنا نعيش وإياكم في ظل هذا الملتقى المبارك ملتقى "متدبر"
مع سورة عظيمة تمثل إعجاز القرآن العظيم لنعلم أن كتاب الله تعالى هو
الكتاب الخالد الكامل، هو الكتاب الذي لن يصلح العالم إلا به، ولن تهتدي
الأمة ولن تبلغ سبيلا من العز والتمكين والاستقرار في جميع شوؤنها إلا بهذا
الكتاب العظيم. هذا الكتاب الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله" فما أعظم أن نعي
ونعلم عظمة هذا القرآن الكريمة وأثره في هذه الأمة "إن الله يرفع بهذا
الكتاب أقوامًا ويخفض به آخرين" أيها الأحبة أيها المتدبرون الذين أتيتم
إلى هذا الملتقى المبارك تسعون لتحقيق شعيرة من شعائر هذا الكتاب العظيم
وهي شعيرة التدبر وما أعظمها من شعيرة، هذه الشعيرة التي من عاشها سيجد مع
القرآن حياة أخرى بلا شك ولا مبالغة، سيعيش هيشة هنية والله سيعيش في سياحة
وسيعيش في سعادة ويعيش في راحة نفسية لا يذوقها أحد من أهل الأرض، نعم
أيها الأحبة (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد)
وأعظم ذكر الله تعالى كتابه. أيها الأحبة دعونا في خلال هذه الدقائق أن
نعيش مع سورة عظيمة سمعنا آيات منها في صلاة العشاء والتي نسميها فسطاط
القرآن، هي سورة البقرة. ولماذا سميت سورة البقرة فسطاط القرآن؟ لأن
الفسطاط هو الخيمة العظيمة البهيجة التي قد ارتفع إقامتها ولها من المنظر
أو لها من الحجم والمساحة ما شملت فيه مكانًا واسعًا فكأن تسمية سورة
البقرة بالفسطاط أي أنها جمعت كليّات الشريعة. والعجيب أن شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله الذي قد بلغ مبلغًا عظيمًا في تدبر كتاب الله عز وجل وفهمه
قد اختصر لنا هذه السورة في سطر واحد، عجيب هذا الإمام العظيم! يقول: وقد
ذكرت في مواضع ليس في موضع واحد ما اشتملت عليه السورة من أصول العلم
وقواعد الدين. أيها الأحبة قد نستعرض هذا القول فنقول كل القرآن فيه أصول
العلم وقواعد الدين لكنه رحمه الله قد عاش مع هذه السورة عيشاً واسعًا
استطاع أن يجعلها أمامه في سطر واحد والعجيب أن من عظمة هذه السورة العظيمة
أنها قد استغرق نزولها عشر سنوات فأول ما نزل في المدينة بعد الهجرة من
سورة البقرة وآخر آية نزلت في المدينة من سورة البقرة إذن هي قد اشتعرقت
عشر سنوات أي الفترة المدنية كلها ولا يعني استغراقها في الفترة المدنية
أنه لم ينزل غيرها، بلى، قد نزل سور عظيمة وكثيرة منها آل عمران والنساء
والمائدة وغيرها لكن القرآن ينزل منجّمًا فينزل بحسب الأحداث. فهذه السورة
استغرق نزولها وأحداثها هذه السنين. ما السر في ذلك؟ ما السر في استغراقها
هذا النزول؟ لأنها تعالج قضية عظيمة في الدولة الإسلامية الأولى. هذا الذي
نريد أن نصل إليه لنعيش في ظلال هذه القضية مع السورة كلها لنعرف كيف أن
هذه السورة بموضوعاتها المتعددة وقضاياها المختلفة كلها تعالج قضية واحدة.
عجيب! كيف أن سورة بهذا الطول تعالج قضية واحدة؟! نعم، وهذا من أسرار
القرآن وإعجازه وهذا من بلاغة القرآن وكماله فتأملوا معي أيها الأحبة
ولعلكم تأخذون مصحفًا من أراد أن يتدبر معي هذه السورة.
نقول وبالله التوفيق أولاً نعرف جميعاً فضل هذه السورة وأنها سنام القرآن
وأنها فسطاط القرآن وأنها السورة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم
بتعملها أمراً "تعلموا سورة البقرة وفي رواية تعلموا سورة البقرة وآل عمران
فإن أخذها بركة " أخذ هذه السورة بركة يعني من استطاع أن يأخذ هذه السورة
فقط لكفى، "وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" أي السحرة وغيرهم من أرباب
وأصناف وأصحاب المذاهب المختلفة المفسدون في الأرض ومنهم المنافقون. هذه
السورة تأتي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم سورة والله عظيمة، تأتي يوم
القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يأتي القرآن يوم القيامة وأهله
الذين عملوا به -ليس الذين قرأوه وإنما الذين عملوا به- تقدمهم سورة البقرة
وآل عمران" فما أعظم هذه السورة التي يوم القيامة تقدم القرآن وتقدم أصحاب
القرآن، تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة وكأنهما غمامتان أو غيايتان كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم. لن أستطرد في فضائل السورة لأني اريد أن
أعيش وإياكم رحلة ماتعة بإذن الله تعالى في سياق هذه السورة. أولًا أيها
الإخوة الكرام عن ماذا تتحدث السورة؟ ما هي القضية العظيمة التي تعالجها؟
هذا القرآن لو اتخذناه منهجًا والله لعشنا في كل كمال. هذه السورة تعالج
قضية الأمة المسلمة في بداية تأسيسها وكأنها باختصار في إعداد الأمة
المحمدية للخلافة وتكليفها بالشريعة وأمرها بالتبليغ. هذا باختصار عما
تتحدث عنه هذه السورة. أرجو أن تركزوا معي في هذه الكلمة لأنه سيتبعها سياق
نسترسل فيه في ذكر الآيات مستدلين على ذلك: إعداد الأمة المحمدية للخلافة
في الأرض وتكليفها بالشريعة وأمانة الله عز وجل في الأرض وأمرها بالتبليغ
ونشر دين الله عز وجل. تأملوا معي يرعاكم الله في هذه السورة آية عظيمة تدل
على هذا المقصد العظيم آية أو جزء من آية -لعلكم تكتشفونها- إذا وصلنا
إليها نسأل.
أولًا افتتح الله عز وجل هذه السورة بآية أو آيتين هما أعظم آيتين جاء
فيهما وصف القرآن العظيم (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2))، الله أكبر! والله إن هذه الآية العظيمة أو
هاتان الآيتان فيهما من وصف القرآن من الكمال الذي بلغ وجوه الكمال كله.
تأملوا معي هاتان الآيتان قد اشتملت على خمسة أوصاف من أوصاف القرآن الدالة
على كماله ولو كان الوقت معنا لجعلنا الأمر فيه تدبر وفيه مدارسة وهو أفضل
لكن الوقت ضيق. هاتان الآيتان اشتملت على خمسة أوصاف:
الوصف الأول كمال القرآن في التحدي في إعجازه، ما هي الآية؟ (ألم (1))
ويقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ما من سورة افتتحت بالأحرف المقطعة إلا
وجاء بعدها أو جاء في ضمنها الانتصار للقرآن الكريم، وهذه قاعدة مهمة لأهل
القرآن. ما من سورة افتتحت بالحروف المقطعة إلا وجاء فيها الانتصار للقرآن
العظيم في أولها أو في آخرها، هذا لعله ليس مطردًا مائة بالمائة لكن في
سورة العنكبوت ربما لم يأت فيها ذلك لكن في ثناياها، هذا كمال الاعجاز.
بعد ذلك كمال المنزلة والعلو. ما الذي تشير إليه في هذه الآية؟ في هاتين
الآيتين؟ ما هي الكلمة؟ (ذلك)، ولم يقل ألم هذا الكتاب وإنما قال (ذلك)
دلالة على بعد منزلته. ما رأيكم لو قلتم ذلك الرجل أو هذا الرجل لا شك أنك
تشير بقولك (ذلك) إلى بعد منزلته وعلوه في الرجولة فقول الله عز وجل وكلامه
الأعلى (ذلك) تشير إلى علو منزلته والقرآن هو أعلى كتاب وأعلى كلام ولا شك
في ذلك.
الوصف الثالث: هو كمال المضمون، كل شيء فيه، كمال مضمونه ما ترك الله
شيئًا إلا وفيه دلالة عليه (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ (38)
الأنعام) (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ
(89) النحل) أليس ذلك دليل (الكتاب) الألف واللام دالة على الاستغراق يعني
دلت على جميع معاني الكتاب وتضمنه لجميع الكتب السماوية، إذن هذا هو الوصف
الثالث.
الوصف الرابع: كماله في سلامته من النقص والقصور والريب والشكّ. ليس هناك
كتاب على وجه الأرض ليس فيه نقص أو قصور ككتاب الله عز وجل، كتب الله
جميعاً لكن هذا الكتاب أكملها (لاَ رَيْبَ فِيهِ)، وتأملوا لم يقل لا شك
فيه وإنما قال (لا ريب) والريب أدق من الشك لأن الريب يشمل الشك والقلق
والخوف والاضطراب أو أدنى من ذلك.
ثم تأتي آيات الوصف الخامس وهو من أعظمها وهو كمال مقصده. لماذا أنزل هذا القرآن؟ لهداية الناس (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)).
إذن انظروا وتأملوا وتدبروا هذا الافتتاح العظيم لهذه السورة بإثبات عظمة
القرآن الذي هو مصدر هذه الأمة وكتابها فلا بد أن أول ما يحتاج الأمر إلى
إثبات المصدر في كماله واستحقاقه وكمال مضمونه وكمال مصدره.
ثم بعد ذكر أصناف الناس في القرآن ومواقفهم من القرآن فذكر المتقين ولم
يقل المؤمنين لأن الأمر يتعلق إشارة إلى أن من الذي ينتفع بالقرآن؟ هم
المتقون يعني الذين جردوا قلوبهم من موانع الانتفاع من الكبر والمعاصي
والغفلة والتكذيب وغير ذلك وحلوها بأسباب الانتفاع من الاخلاص والاقبال
والرغبة والصدق وحضور القلب، هذا معنى المتقين إذن هو هدى للمتقين الذين
حققوا أسباب الانتفاع وتجردوا من أسباب عدم الانتفاع. ثم ذكر بعد ذلك أصناف
المتقين ولا نريد أن نفصّل فيها. ثم ذكر بعد ذلك الصنف الثاني صنف
الكافرين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)) أي الذين كفروا بهذا القرآن
وأصروا وعاندوا لا يمكن أن ينتفعوا بهذا القرآن فمن أعرض عن ذكر الله
وكتابه لا يمكن أن ينتفع. ثم بعد ذلك جاء الحديث عن صنف ثالث وأطال فيه وهم
المنافقون ولماذا أطال فيه؟ لأن السورة نزلت لإعداد الأمة المسلمة، ولا بد
في إعداد الأمة المسلمة أن تُحذَّر من أعظم أعدائها، فمن أعظم أعداء هذه
الأمة المحمدية الصنفان أطالت السورة في تقريرهما الطائفة الأولى هم
المنافقون وذكر الله عز وجل من أوصافهم عشراً وقرر الله تعالى في ذلك أصناف
لو استعرضاها لوجدناها كأنها تصف حال المنافقين اليوم ومن أبرزها قول الله
عز وجل (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ (11)) أي لا
تحدثوا في الناس إفساداً في دين الله عز وجل فتشتتوا الناس عن دين الله
تعالى وتثيروا الشبهات والشهوات وتصرفوا الناس بما لديكم من لسان ووسائل
أخرى (قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)) نريد أن نحقق للمجتمع
تقدمًا وإصلاحًا ورقيًا نصعد به إلى مرتبة الدول المتقدمة، قال الله عز وجل
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12)).
ثم ذكر الله عز وجل بعد ذكر المنافقين وأطال ومثّلهم بمثالين المَثَل
المائي والمَثَل الناري وقرره ابن القيم تقريراً عجيباً أنصحكم بقراءته.
بعد ذلك جاء أول أمر في القرآن الكريم، ما هو هذا الأمر الأول؟ الأمر
بعبادة الله عز وجل وحده لا شريك له فجمع الأصناف الثلاثة بقوله (يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) ثم قرر هذه الدعوة بما يوجبها
من استحقاق الله عز وجل للربوبية وأثبت بذلك أيضاً خلال هذه الدعوة كمال
القرآن (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23)). ثم ذكر وعيد الكافرين ثم ذكر
وعيد المؤمنين وفي ذكر وعيد المؤمنين هذه الآيات من أبرز الآيات التي جاءت
في وصف وعيد المؤمنين بأقسى العبارة (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ
هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً (25)) ما
معنى هذه الآية؟ ما معنى (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ
رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ)؟ هذا المعنى أن
ثمرة الجنة بعكس ثمرة الدنيا، كيف ذلك؟ ثمرة الدنيا أنت إذا أكلت الفاكهة
اليوم غدًا ماذا سيكون طعمها؟ أجمل أو أقل؟ أقل، ثم بعد ذلك ربما لا
تشتهيها أما ثمرة الجنة ففي كل يوم تزداد لذة في كل يوم، في كل يوم تزداد
اللذة لكن الشكل هو الشكل تأتيك الرمانة هي الرمانة فتقول هذا الذي رزقنا
من قبل فماذا اختلف طعمه وزاد؟ فيقال كُلوا، النوع نوع واحد والطعم مختلف.
فما أجمل هذه الحياة! كل يوم يزداد لذة، تصوروا هذا النعيم! وأهل الجنة في
كل أسبوع يزدادون جمالًا في كل أسبوع يزداد أهل الجنة ونساؤهم جمالًا فإنهم
يذهبون لرؤية ربهم يوم الجمعة فتهب عليهم ريح الشمال فيزدادون بها جمالًا
وبهاء، حسناً وجمالًا فيرجعون إلى أهليهم وزوجاتهم من الحور العين فيقول
أزواجهم لهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالًا فيقولون وأنتم والله
ازددتم بعدنا حسناً وجمالًا في كل أسبوع! الله أكبر! ما أعظم هذا النعيم.
ثم يأتي بعد ذلك آيات في الرد على الطاعنين في القرآن يوم أن أعجزهم الله
أرادوا أن يدخلوا عليه الشُبه أو الشكوك فقالوا كيف يضرب الله في القرآن
المثل بالبعوضة والحمار والذباب؟ أنى لكتاب الله أن يكون كذلك، هذا كلامهم،
فقال الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً
مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26)) أي أن هذا كتاب الله عز وجل يضرب فيه
ما يشاء، وهذا من كمال القرآن لتوضيح الناس بالمثال. ثم بعد ذلك تأتي
القصة الأولى التي هي دليل على ما ذكرت من أن السورة في إعداد الأمة
للخلافة، ما هي هذه القصة؟ هذه قصة آدم ولاحظوا وتدبروا قال الله عز وجل
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً (30)) ما قال آدم وإنما قال خليفة، من هو أول خليفة على وجه
الأرض من بني البشر؟ هو آدم فذكر الله قصته لتكون تذكيرا بالأصل الأول كأن
الله تعالى يقول يا بني آدم هذا أبوكم استخلفناه ليتبع الهدى ويطيع أمر
الله ولذلك قال في السورة (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38)) من الذي اتبع الهدى آدم أم إبليس؟ هو آدم أما
إبليس وذريته من الكافرين، ذريته ليست كلها كافرة لكن من الكافرين هم ممن
كذبوا وكفروا. ثم في هذه الآيات ذكر الله عز وجل فضائل آدم عليه السلام
ومناقبه. ما هي هذه الفضائل؟
الفضيلة الأولى الخلافة. انظروا بماذا شرفكم الله عز وجل لتعرفوا فضل الله
علينا كيف أن الله شرفنا تشريفا عظيماً فأول التشريف أن الله اختارنا
خلفاء في الأرض.
ثم التشريف الثاني لآدم وذريته أن الله علمه الأسماء كلها واختلاف
المفسرين في هذا كبير لكن الصحيح أن الله تعالى علم آدم جميع الأسماء
الدالة على المسميات والدليل على ذلك أنه أعجز الملائكة والملائكة عندهم من
علم الله عز وجل لكن ليس عندهم العلم كله. قال تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ
الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ (31)) تحدى
الملائكة لأجل آدم ما أ'ظم هذا من شرف! والله إنه لشرف عظيم! أريد أن أثق
مع الآيات لكني أريد أن نسترسل معكم خلال السورة كلها عسى أن نقف فيها على
مواضع من العبرة نعي حقيقة هذا الكتاب العظيم وهذه الآيات البينات.
من المواضع التي شرف الله تعالى فيها آدم الموضع الثالث هو موضع إسجاد
الملائكة له، الملائكة المقربون البررة يسجدون لآدم! إنه والله لشرف عظيم!
ما أعظم هذا لو استحضرناه (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ
لآدَمَ (34)) هذا الشرف والمنقبة الثالثة.
والمنقبة الرابعة إدخاله الجنة ما قال له اهبط إلى الأرض وقد أمرتك باتباع
الهدى أولًا شرّفه بسكن الجنة ليقول له هذا مستقرك أنت وذريتك وليس
إكرامًا له أن يبقى في الجنة دائمًا لأن الله تعالى خلقه ليكون خليفة في
الأرض وليكون من ذريته أنبياء ورسل وصالحين وشهداء وحفظة وعلماء وما أعظم
هذا الميراث العظيم! الذي سيورثهم بعد هذا الابتلاء سيورثهم تلك الجنة
العظيمة. انظروا أيّ سِرٍّ عظيم وراء هذا التكريم في إدخاله الجنة ليشرفه
بها ويقول له هذه جنتك ثم ينزله إلى الأرض ليختبره هو وذريته.
ويأتي التكريم الخامس في تعريضه للتوبة وتلقي توبته بالقبول ورفع شأنه
وإنزال إبليس في أسفل سافلين. ما أعظم هذا الشرف! وما أعظم أن يبعثنا هذا
الهدي النبوي لآدم عليه السلام أنه تلقى وتعرض لكلمات الله ولاحظوا أنه قال
كلمات أي كلمات التوبة وهي في قول الله عز وجل في سورة الأعراف (قَالاَ
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)) هذه هي الكلمات كما ذكر بعض
المفسرين وإن كانوا اختلفوا فيها.
ثم بعد قصة آدم جاءت قصة بني إسرائيل وعجيب تلك القصة كيف أن الله تعالى
أطال فيها، وما شأننا ببني إسرائيل؟! نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فما
الشأن وما السِرّ الإلهي العظيم حول التفصيل والتطويل والاستطراد والتبيين
الواضح لقصة بني إسرائيل؟ أولاً لأنهم هم الأمة المستخلفة قبل أمة محمد صلى
الله عليه وسلم فلا بد أن يذكر الله عز وجل هذه الأمة المخالفة المعاندة
التي لم تتلقَ أمر الله تعالى بالقبول ولم تحمل أمانة الله تعالى بالخلافة
كما أمر الله. يبينها تعالى ويفصلها ويطيل في تقريرها لنحذر أشد الحذر من
مخالفاتها وجناياتها وطبائعها ولذلك استطرد. وذكر بعض المفسرين سراً آخر في
ذكر التفصيل لبني إسرائيل. أولًا من الذي نزلت فيه هذه الآيات؟ أهل
المدينة، ومَنْ في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيها
طائفتان العرب واليهود فلا بد أن يخاطبهم القرآن ولذلك جاءت في هذه الآيات
نداء إلهي عظيم، والله لقد ناداهم الله في هذه الآيات بأشرف اسم لهم
"إسرائيل". أشرف اسم عند اليهود "اسرائيل" ولذلك سموا دولتهم هذه إسرائيل.
واسرائيل هو يعقوب أبوهم عليه السلام ومعنى إسرائيل عبد الله فهو اسم شريف
ناداهم الله به في هذه السورة ثلاث نداءات كلها نداء فيه تلطف وفيه ترغيب
وتحفيز إلى أن يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم وهذا الرسول العظيم الذي كان في
كتبهم إخبارٌ عنه (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (47)) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
(122)) ثلاث مرات في أول القصة وفي وسطها وفي آخرها كل ذلك رعايةٌ من الله
تعالى ودعوة لهم ولذلك قال تعالى عنهم (وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ
بِهِ (41)).
الأمر الثاني في سر إطالة هذه القصة قصة بني إسرائيل ذكرها بعض المفسرين
قالوا أن اليهود أمة ذات جمود عقلي، جامد العقل لا تكفيه الإشارة لا بد أن
تفصّل له ولا بد أن تؤكد عليه ولا بد أن تبين له فلا تكفيهم الإشارة فأراد
الله عز وجل أن يبين لهم كل البيان حتى لا يكون لهم حجة واليهود هم أهل
مراوغة وأهل جدل وأهل حيلة لذلك ذكر الله عز وجل هذه الصفات في هذه القصة.
أريد أن أسأل سؤالًا وعليه جائزة: ذكر الله تعالى في ثنايا قصة بني
إسرائيل قصة البقرة وسمى الله تعالى بها السورة، فما سر تسمية السورة
بالبقرة مع أنها من قصص بني إسرائيل وفي السورة ما هو أعظم من البقرة
الكرسي، قصة طالوت، تحويل القبلة، إبراهيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (124)) إلى غير ذلك فلماذا سميت هذه السورة بالبقرة
وذُكِرت فيها قصة البقرة؟ قد يقول قائل لأن قصة البقرة ذكرت فيها، صحيح لكن
هناك سر عظيم متعلق بهدف السورة وسياقها وهو إعداد هذه الأمة للخلافة
وتكليفها بالشريعة وأمرها بالتبليغ والدعوة. ما هذا المعنى العظيم الذي
نلتمسه من قصة البقرة العظيمة؟ تشير هذه القصة إلى موقف من مواقف بني
إسرائيل التي هي سبب سلب الخلافة منهم، لماذا سلب الله الخلافة منهم؟ لعدة
أمور منها عنادهم وقتلهم الأنبياء ومجادلتهم لكن هذه القصة تدل على صفة من
صفاتهم في تلقيهم لأوامر الله. ما سرّ ذكر هذه القصة؟ كأنها تحذير لهذه
الأمة من أن تشابه بني إسرائيل في تلقيها أوامر الله وتوجيه لهذه الأمة
المحمدية أن تتلقى أوامر الله عز وجل بالقبول والتسليم التام والمبادرة.
هذه القصة لها علاقة بالسورة كلها، كل السورة ستمر على أي حكم وأي آية
ستتذكر هذه القصة. هذه القصة تشير إلى موقف بني إسرائيل من تلقيهم شريعة
الله وأوامر الله، كيف تلقوها؟ انظروا إلى سفاهة هؤلاء القوم وسفولهم
ودناءتهم يوم أن قال موسى عليه السلام لهم (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً (67)) لم يقل أنا
آمركم وإنما قال (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً)،
ماذا قالوا عياذًا بالله؟ (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) موسى عليه
السلام إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ثم يقولون بدناءتهم أتتخذنا هزوا؟
قال موسى (قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67))
ثم لم يمتثلوا وقالوا (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا
هِيَ (68)) ثم لم يمتثلوا قالوا (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن
لَّنَا مَا لَوْنُهَا (69)) ثم لم يمتثلوا لما بينها ثم قالوا (قَالُواْ
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)) لما قالوا إنا إن
شاء الله لمهتدون بينها الله بياناً يكفي ثم ذبحوها. أرأيتم هذه الدناءة
وهذا السوء في تلقي أوامر الله؟! تردد وتلكؤ وتشدد فشدد الله عليهم. ولذلك
هذه السورة وهذه القصة تحذير لنا أمة الإسلام أن نتلقى أوامر الله وشريعة
الله بالتردد والتلكؤ والتشدد والتباطؤ وعدم الامتثال! ولذلك قال الله عز
وجل (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن
قَبْلُ (108)) لكن هذه الأمة المرحومة والله لقد رحمها الله قد تلقت كتاب
الله وشريعة الله في أكمل حال وأحسن تلقّي واستجابة وإيمان تام. ما أعظم
الله! وما أرحمه بهذه الأمة!! فهذه الأمة أمة القبول والتسليم لله عز وجل
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36) الأحزاب).
الدليل على خيرية هذه الأمة وكمالها في تلقي أوامر الله شهادة الله عز وجل
في آخر السورة. بعد أن بيّن الله عز وجل لهم تلك التشريعات العظيمة التي لا
يحملها إلا من هيأه الله لها، بعد هذا التعليم والتربية والاعداد
والتشريع، الله أكبر! تأتي الشهادة. تأتي الشهادة من الله عز وجل لهذه
الأمة، ما هذه الشهادة؟ شهادة نزلت من تحت العرش "أبشر بنورين أنزلهما الله
تعالى لم يؤتهما نبي قبلك" ما هاتان البشارتان؟ فاتحة الكتاب وخواتيم سورة
البقرة. كنز وفي رواية "كنز" وفي رواية "بنور" وهما والله كنز!. أليست
الشهادة التي يحصل عليها الطالب -ولله المثل الأعلى- كنز؟ أليست شرف؟ أليست
هي نتيجة جهد سنوات بعد التعب والدراسة والسنوات التي قضاها للتعليم؟ ثم
يأخذ الشهادة فيها خلاصة الأمر يتعين بها. هذه الشهادة جاءت من الله عز وجل
بقوله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ (285)) لاحظوا قوله (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ)، (مِن
رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) الله أكبر! شهادة للرسول وشهادة للمؤمنين أمة
محمد صلى الله عليه وسلم (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) كما فرّق بنو
إسرائيل. (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولم يقولوا سمعنا وأطعنا
وأننا يا ربنا قد كمُلنا في ديننا، ما قالوا كذلك! قالوا (غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) يعني يا ربنا مع أننا مستجيبين وممتثلين
ونسمع ونطيع إلا أننا بشر مذنبون مقصّرون فتب علينا واغفر لنا. فماذا قال
الله وهو الرحيم المعلّم؟ علمنا الدعاء ثم عفا عنا قال الله (لاَ يُكَلِّفُ
اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (286)) أي افعلوا ما استطعتم، اتقوا الله
ما استطعتم. الله أكبر! هذه الأمة رفع عنها الله الآصار رفع الله عنها
الأغلال والتشديد يوم أن أقبلت فمن أقبل على الله واستجاب لأمره يسّر الله
أمره (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) الليل) ما قال سنيسره لليسرى في كذا وكذا!
فسنيسره لليسرى، من أقبل على دين الله برغبة وبكل شوق وكل إيمان وبكل
طواعية وتذلل لله فوالله سييسر له الأمور كلها سيجد حياته مستقرة، سيجد
حياته في طعم وراحة وطمأنينة.
بعد هذه القصة، قصة بني إسرائيل الطويلة التي يختمها الله بندائهم (لعلهم
يرجعون) ولم يرجعوا، كم آمن من بني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم؟! مع هذه النداءات الطويلة والآيات الطويلة والنداءات والتحذيرات
والتأكيدات، كم آمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما آمن إلا أقل من
عشرة! أقل من عشرة آمنوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهدنا اليوم
ما زال اليهود معاندون، كم سمعنا من يهودي أسلم؟ والله ما أظني سمعت إلا
ثلاثة أو أربعة ولا أدري ما حالهم! لأنهم أمة غضبية غضب الله عليهم فكتب
عليهم الجمود لما شدّدوا شدّد الله عليهم، لما عاندوا زادهم الله عنادًا
وأضلهم وكتب عليهم الغضب (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ (7) الفاتحة) وأختم
أقول والله إن القرآن لمعجز حقًا وهو المعجزة الكاملة الخالدة التي ستبقى
لأمة الإسلام لو أن أمة الإسلام ارتبطت بكتاب الله عز وجل ارتباطا علميا
عمليا والله ستكون أعلى أمة في الأرض حتى في زمن التقنية والتكنولوجيا وعصر
الأفلاك وعصر تفجر المعلومات والله ستكون هذه الأمة أعظم أمة بهذا القرآن
كما قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) فصّلت) (أنّه) أي القرآن،
وكل يوم يكتشف العالم إعجازًا جديدًا فإذا القرآن يأتي ويبيّنه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتدبرين لكتابه العالمين به العاملين وأن
يفتح لنا من أبواب فهمه لكتابه وأن يجعلنا من أهله حقًا في الدنيا والآخرة
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وجزاكم الله خيرًا على صبركم وتحملكم وكتب
الله أجركم ورفع الله قدركم بالقرآن وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
ولم يجعل له عوجًا، والحمد لله الذي جعل هذا القرآن هدى للمتقين (إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء) هذا كتاب
الله عز وجل هو المعجزة الكبرى والمعجزة الخالدة إلى يوم الدين. أيها
الإخوة الفضلاء لعلنا نعيش وإياكم في ظل هذا الملتقى المبارك ملتقى "متدبر"
مع سورة عظيمة تمثل إعجاز القرآن العظيم لنعلم أن كتاب الله تعالى هو
الكتاب الخالد الكامل، هو الكتاب الذي لن يصلح العالم إلا به، ولن تهتدي
الأمة ولن تبلغ سبيلا من العز والتمكين والاستقرار في جميع شوؤنها إلا بهذا
الكتاب العظيم. هذا الكتاب الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله" فما أعظم أن نعي
ونعلم عظمة هذا القرآن الكريمة وأثره في هذه الأمة "إن الله يرفع بهذا
الكتاب أقوامًا ويخفض به آخرين" أيها الأحبة أيها المتدبرون الذين أتيتم
إلى هذا الملتقى المبارك تسعون لتحقيق شعيرة من شعائر هذا الكتاب العظيم
وهي شعيرة التدبر وما أعظمها من شعيرة، هذه الشعيرة التي من عاشها سيجد مع
القرآن حياة أخرى بلا شك ولا مبالغة، سيعيش هيشة هنية والله سيعيش في سياحة
وسيعيش في سعادة ويعيش في راحة نفسية لا يذوقها أحد من أهل الأرض، نعم
أيها الأحبة (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد)
وأعظم ذكر الله تعالى كتابه. أيها الأحبة دعونا في خلال هذه الدقائق أن
نعيش مع سورة عظيمة سمعنا آيات منها في صلاة العشاء والتي نسميها فسطاط
القرآن، هي سورة البقرة. ولماذا سميت سورة البقرة فسطاط القرآن؟ لأن
الفسطاط هو الخيمة العظيمة البهيجة التي قد ارتفع إقامتها ولها من المنظر
أو لها من الحجم والمساحة ما شملت فيه مكانًا واسعًا فكأن تسمية سورة
البقرة بالفسطاط أي أنها جمعت كليّات الشريعة. والعجيب أن شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله الذي قد بلغ مبلغًا عظيمًا في تدبر كتاب الله عز وجل وفهمه
قد اختصر لنا هذه السورة في سطر واحد، عجيب هذا الإمام العظيم! يقول: وقد
ذكرت في مواضع ليس في موضع واحد ما اشتملت عليه السورة من أصول العلم
وقواعد الدين. أيها الأحبة قد نستعرض هذا القول فنقول كل القرآن فيه أصول
العلم وقواعد الدين لكنه رحمه الله قد عاش مع هذه السورة عيشاً واسعًا
استطاع أن يجعلها أمامه في سطر واحد والعجيب أن من عظمة هذه السورة العظيمة
أنها قد استغرق نزولها عشر سنوات فأول ما نزل في المدينة بعد الهجرة من
سورة البقرة وآخر آية نزلت في المدينة من سورة البقرة إذن هي قد اشتعرقت
عشر سنوات أي الفترة المدنية كلها ولا يعني استغراقها في الفترة المدنية
أنه لم ينزل غيرها، بلى، قد نزل سور عظيمة وكثيرة منها آل عمران والنساء
والمائدة وغيرها لكن القرآن ينزل منجّمًا فينزل بحسب الأحداث. فهذه السورة
استغرق نزولها وأحداثها هذه السنين. ما السر في ذلك؟ ما السر في استغراقها
هذا النزول؟ لأنها تعالج قضية عظيمة في الدولة الإسلامية الأولى. هذا الذي
نريد أن نصل إليه لنعيش في ظلال هذه القضية مع السورة كلها لنعرف كيف أن
هذه السورة بموضوعاتها المتعددة وقضاياها المختلفة كلها تعالج قضية واحدة.
عجيب! كيف أن سورة بهذا الطول تعالج قضية واحدة؟! نعم، وهذا من أسرار
القرآن وإعجازه وهذا من بلاغة القرآن وكماله فتأملوا معي أيها الأحبة
ولعلكم تأخذون مصحفًا من أراد أن يتدبر معي هذه السورة.
نقول وبالله التوفيق أولاً نعرف جميعاً فضل هذه السورة وأنها سنام القرآن
وأنها فسطاط القرآن وأنها السورة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم
بتعملها أمراً "تعلموا سورة البقرة وفي رواية تعلموا سورة البقرة وآل عمران
فإن أخذها بركة " أخذ هذه السورة بركة يعني من استطاع أن يأخذ هذه السورة
فقط لكفى، "وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" أي السحرة وغيرهم من أرباب
وأصناف وأصحاب المذاهب المختلفة المفسدون في الأرض ومنهم المنافقون. هذه
السورة تأتي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم سورة والله عظيمة، تأتي يوم
القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يأتي القرآن يوم القيامة وأهله
الذين عملوا به -ليس الذين قرأوه وإنما الذين عملوا به- تقدمهم سورة البقرة
وآل عمران" فما أعظم هذه السورة التي يوم القيامة تقدم القرآن وتقدم أصحاب
القرآن، تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة وكأنهما غمامتان أو غيايتان كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم. لن أستطرد في فضائل السورة لأني اريد أن
أعيش وإياكم رحلة ماتعة بإذن الله تعالى في سياق هذه السورة. أولًا أيها
الإخوة الكرام عن ماذا تتحدث السورة؟ ما هي القضية العظيمة التي تعالجها؟
هذا القرآن لو اتخذناه منهجًا والله لعشنا في كل كمال. هذه السورة تعالج
قضية الأمة المسلمة في بداية تأسيسها وكأنها باختصار في إعداد الأمة
المحمدية للخلافة وتكليفها بالشريعة وأمرها بالتبليغ. هذا باختصار عما
تتحدث عنه هذه السورة. أرجو أن تركزوا معي في هذه الكلمة لأنه سيتبعها سياق
نسترسل فيه في ذكر الآيات مستدلين على ذلك: إعداد الأمة المحمدية للخلافة
في الأرض وتكليفها بالشريعة وأمانة الله عز وجل في الأرض وأمرها بالتبليغ
ونشر دين الله عز وجل. تأملوا معي يرعاكم الله في هذه السورة آية عظيمة تدل
على هذا المقصد العظيم آية أو جزء من آية -لعلكم تكتشفونها- إذا وصلنا
إليها نسأل.
أولًا افتتح الله عز وجل هذه السورة بآية أو آيتين هما أعظم آيتين جاء
فيهما وصف القرآن العظيم (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2))، الله أكبر! والله إن هذه الآية العظيمة أو
هاتان الآيتان فيهما من وصف القرآن من الكمال الذي بلغ وجوه الكمال كله.
تأملوا معي هاتان الآيتان قد اشتملت على خمسة أوصاف من أوصاف القرآن الدالة
على كماله ولو كان الوقت معنا لجعلنا الأمر فيه تدبر وفيه مدارسة وهو أفضل
لكن الوقت ضيق. هاتان الآيتان اشتملت على خمسة أوصاف:
الوصف الأول كمال القرآن في التحدي في إعجازه، ما هي الآية؟ (ألم (1))
ويقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ما من سورة افتتحت بالأحرف المقطعة إلا
وجاء بعدها أو جاء في ضمنها الانتصار للقرآن الكريم، وهذه قاعدة مهمة لأهل
القرآن. ما من سورة افتتحت بالحروف المقطعة إلا وجاء فيها الانتصار للقرآن
العظيم في أولها أو في آخرها، هذا لعله ليس مطردًا مائة بالمائة لكن في
سورة العنكبوت ربما لم يأت فيها ذلك لكن في ثناياها، هذا كمال الاعجاز.
بعد ذلك كمال المنزلة والعلو. ما الذي تشير إليه في هذه الآية؟ في هاتين
الآيتين؟ ما هي الكلمة؟ (ذلك)، ولم يقل ألم هذا الكتاب وإنما قال (ذلك)
دلالة على بعد منزلته. ما رأيكم لو قلتم ذلك الرجل أو هذا الرجل لا شك أنك
تشير بقولك (ذلك) إلى بعد منزلته وعلوه في الرجولة فقول الله عز وجل وكلامه
الأعلى (ذلك) تشير إلى علو منزلته والقرآن هو أعلى كتاب وأعلى كلام ولا شك
في ذلك.
الوصف الثالث: هو كمال المضمون، كل شيء فيه، كمال مضمونه ما ترك الله
شيئًا إلا وفيه دلالة عليه (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ (38)
الأنعام) (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ
(89) النحل) أليس ذلك دليل (الكتاب) الألف واللام دالة على الاستغراق يعني
دلت على جميع معاني الكتاب وتضمنه لجميع الكتب السماوية، إذن هذا هو الوصف
الثالث.
الوصف الرابع: كماله في سلامته من النقص والقصور والريب والشكّ. ليس هناك
كتاب على وجه الأرض ليس فيه نقص أو قصور ككتاب الله عز وجل، كتب الله
جميعاً لكن هذا الكتاب أكملها (لاَ رَيْبَ فِيهِ)، وتأملوا لم يقل لا شك
فيه وإنما قال (لا ريب) والريب أدق من الشك لأن الريب يشمل الشك والقلق
والخوف والاضطراب أو أدنى من ذلك.
ثم تأتي آيات الوصف الخامس وهو من أعظمها وهو كمال مقصده. لماذا أنزل هذا القرآن؟ لهداية الناس (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)).
إذن انظروا وتأملوا وتدبروا هذا الافتتاح العظيم لهذه السورة بإثبات عظمة
القرآن الذي هو مصدر هذه الأمة وكتابها فلا بد أن أول ما يحتاج الأمر إلى
إثبات المصدر في كماله واستحقاقه وكمال مضمونه وكمال مصدره.
ثم بعد ذكر أصناف الناس في القرآن ومواقفهم من القرآن فذكر المتقين ولم
يقل المؤمنين لأن الأمر يتعلق إشارة إلى أن من الذي ينتفع بالقرآن؟ هم
المتقون يعني الذين جردوا قلوبهم من موانع الانتفاع من الكبر والمعاصي
والغفلة والتكذيب وغير ذلك وحلوها بأسباب الانتفاع من الاخلاص والاقبال
والرغبة والصدق وحضور القلب، هذا معنى المتقين إذن هو هدى للمتقين الذين
حققوا أسباب الانتفاع وتجردوا من أسباب عدم الانتفاع. ثم ذكر بعد ذلك أصناف
المتقين ولا نريد أن نفصّل فيها. ثم ذكر بعد ذلك الصنف الثاني صنف
الكافرين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)) أي الذين كفروا بهذا القرآن
وأصروا وعاندوا لا يمكن أن ينتفعوا بهذا القرآن فمن أعرض عن ذكر الله
وكتابه لا يمكن أن ينتفع. ثم بعد ذلك جاء الحديث عن صنف ثالث وأطال فيه وهم
المنافقون ولماذا أطال فيه؟ لأن السورة نزلت لإعداد الأمة المسلمة، ولا بد
في إعداد الأمة المسلمة أن تُحذَّر من أعظم أعدائها، فمن أعظم أعداء هذه
الأمة المحمدية الصنفان أطالت السورة في تقريرهما الطائفة الأولى هم
المنافقون وذكر الله عز وجل من أوصافهم عشراً وقرر الله تعالى في ذلك أصناف
لو استعرضاها لوجدناها كأنها تصف حال المنافقين اليوم ومن أبرزها قول الله
عز وجل (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ (11)) أي لا
تحدثوا في الناس إفساداً في دين الله عز وجل فتشتتوا الناس عن دين الله
تعالى وتثيروا الشبهات والشهوات وتصرفوا الناس بما لديكم من لسان ووسائل
أخرى (قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)) نريد أن نحقق للمجتمع
تقدمًا وإصلاحًا ورقيًا نصعد به إلى مرتبة الدول المتقدمة، قال الله عز وجل
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12)).
ثم ذكر الله عز وجل بعد ذكر المنافقين وأطال ومثّلهم بمثالين المَثَل
المائي والمَثَل الناري وقرره ابن القيم تقريراً عجيباً أنصحكم بقراءته.
بعد ذلك جاء أول أمر في القرآن الكريم، ما هو هذا الأمر الأول؟ الأمر
بعبادة الله عز وجل وحده لا شريك له فجمع الأصناف الثلاثة بقوله (يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) ثم قرر هذه الدعوة بما يوجبها
من استحقاق الله عز وجل للربوبية وأثبت بذلك أيضاً خلال هذه الدعوة كمال
القرآن (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23)). ثم ذكر وعيد الكافرين ثم ذكر
وعيد المؤمنين وفي ذكر وعيد المؤمنين هذه الآيات من أبرز الآيات التي جاءت
في وصف وعيد المؤمنين بأقسى العبارة (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ
هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً (25)) ما
معنى هذه الآية؟ ما معنى (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ
رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ)؟ هذا المعنى أن
ثمرة الجنة بعكس ثمرة الدنيا، كيف ذلك؟ ثمرة الدنيا أنت إذا أكلت الفاكهة
اليوم غدًا ماذا سيكون طعمها؟ أجمل أو أقل؟ أقل، ثم بعد ذلك ربما لا
تشتهيها أما ثمرة الجنة ففي كل يوم تزداد لذة في كل يوم، في كل يوم تزداد
اللذة لكن الشكل هو الشكل تأتيك الرمانة هي الرمانة فتقول هذا الذي رزقنا
من قبل فماذا اختلف طعمه وزاد؟ فيقال كُلوا، النوع نوع واحد والطعم مختلف.
فما أجمل هذه الحياة! كل يوم يزداد لذة، تصوروا هذا النعيم! وأهل الجنة في
كل أسبوع يزدادون جمالًا في كل أسبوع يزداد أهل الجنة ونساؤهم جمالًا فإنهم
يذهبون لرؤية ربهم يوم الجمعة فتهب عليهم ريح الشمال فيزدادون بها جمالًا
وبهاء، حسناً وجمالًا فيرجعون إلى أهليهم وزوجاتهم من الحور العين فيقول
أزواجهم لهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالًا فيقولون وأنتم والله
ازددتم بعدنا حسناً وجمالًا في كل أسبوع! الله أكبر! ما أعظم هذا النعيم.
ثم يأتي بعد ذلك آيات في الرد على الطاعنين في القرآن يوم أن أعجزهم الله
أرادوا أن يدخلوا عليه الشُبه أو الشكوك فقالوا كيف يضرب الله في القرآن
المثل بالبعوضة والحمار والذباب؟ أنى لكتاب الله أن يكون كذلك، هذا كلامهم،
فقال الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً
مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26)) أي أن هذا كتاب الله عز وجل يضرب فيه
ما يشاء، وهذا من كمال القرآن لتوضيح الناس بالمثال. ثم بعد ذلك تأتي
القصة الأولى التي هي دليل على ما ذكرت من أن السورة في إعداد الأمة
للخلافة، ما هي هذه القصة؟ هذه قصة آدم ولاحظوا وتدبروا قال الله عز وجل
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً (30)) ما قال آدم وإنما قال خليفة، من هو أول خليفة على وجه
الأرض من بني البشر؟ هو آدم فذكر الله قصته لتكون تذكيرا بالأصل الأول كأن
الله تعالى يقول يا بني آدم هذا أبوكم استخلفناه ليتبع الهدى ويطيع أمر
الله ولذلك قال في السورة (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38)) من الذي اتبع الهدى آدم أم إبليس؟ هو آدم أما
إبليس وذريته من الكافرين، ذريته ليست كلها كافرة لكن من الكافرين هم ممن
كذبوا وكفروا. ثم في هذه الآيات ذكر الله عز وجل فضائل آدم عليه السلام
ومناقبه. ما هي هذه الفضائل؟
الفضيلة الأولى الخلافة. انظروا بماذا شرفكم الله عز وجل لتعرفوا فضل الله
علينا كيف أن الله شرفنا تشريفا عظيماً فأول التشريف أن الله اختارنا
خلفاء في الأرض.
ثم التشريف الثاني لآدم وذريته أن الله علمه الأسماء كلها واختلاف
المفسرين في هذا كبير لكن الصحيح أن الله تعالى علم آدم جميع الأسماء
الدالة على المسميات والدليل على ذلك أنه أعجز الملائكة والملائكة عندهم من
علم الله عز وجل لكن ليس عندهم العلم كله. قال تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ
الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ (31)) تحدى
الملائكة لأجل آدم ما أ'ظم هذا من شرف! والله إنه لشرف عظيم! أريد أن أثق
مع الآيات لكني أريد أن نسترسل معكم خلال السورة كلها عسى أن نقف فيها على
مواضع من العبرة نعي حقيقة هذا الكتاب العظيم وهذه الآيات البينات.
من المواضع التي شرف الله تعالى فيها آدم الموضع الثالث هو موضع إسجاد
الملائكة له، الملائكة المقربون البررة يسجدون لآدم! إنه والله لشرف عظيم!
ما أعظم هذا لو استحضرناه (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ
لآدَمَ (34)) هذا الشرف والمنقبة الثالثة.
والمنقبة الرابعة إدخاله الجنة ما قال له اهبط إلى الأرض وقد أمرتك باتباع
الهدى أولًا شرّفه بسكن الجنة ليقول له هذا مستقرك أنت وذريتك وليس
إكرامًا له أن يبقى في الجنة دائمًا لأن الله تعالى خلقه ليكون خليفة في
الأرض وليكون من ذريته أنبياء ورسل وصالحين وشهداء وحفظة وعلماء وما أعظم
هذا الميراث العظيم! الذي سيورثهم بعد هذا الابتلاء سيورثهم تلك الجنة
العظيمة. انظروا أيّ سِرٍّ عظيم وراء هذا التكريم في إدخاله الجنة ليشرفه
بها ويقول له هذه جنتك ثم ينزله إلى الأرض ليختبره هو وذريته.
ويأتي التكريم الخامس في تعريضه للتوبة وتلقي توبته بالقبول ورفع شأنه
وإنزال إبليس في أسفل سافلين. ما أعظم هذا الشرف! وما أعظم أن يبعثنا هذا
الهدي النبوي لآدم عليه السلام أنه تلقى وتعرض لكلمات الله ولاحظوا أنه قال
كلمات أي كلمات التوبة وهي في قول الله عز وجل في سورة الأعراف (قَالاَ
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)) هذه هي الكلمات كما ذكر بعض
المفسرين وإن كانوا اختلفوا فيها.
ثم بعد قصة آدم جاءت قصة بني إسرائيل وعجيب تلك القصة كيف أن الله تعالى
أطال فيها، وما شأننا ببني إسرائيل؟! نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فما
الشأن وما السِرّ الإلهي العظيم حول التفصيل والتطويل والاستطراد والتبيين
الواضح لقصة بني إسرائيل؟ أولاً لأنهم هم الأمة المستخلفة قبل أمة محمد صلى
الله عليه وسلم فلا بد أن يذكر الله عز وجل هذه الأمة المخالفة المعاندة
التي لم تتلقَ أمر الله تعالى بالقبول ولم تحمل أمانة الله تعالى بالخلافة
كما أمر الله. يبينها تعالى ويفصلها ويطيل في تقريرها لنحذر أشد الحذر من
مخالفاتها وجناياتها وطبائعها ولذلك استطرد. وذكر بعض المفسرين سراً آخر في
ذكر التفصيل لبني إسرائيل. أولًا من الذي نزلت فيه هذه الآيات؟ أهل
المدينة، ومَنْ في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيها
طائفتان العرب واليهود فلا بد أن يخاطبهم القرآن ولذلك جاءت في هذه الآيات
نداء إلهي عظيم، والله لقد ناداهم الله في هذه الآيات بأشرف اسم لهم
"إسرائيل". أشرف اسم عند اليهود "اسرائيل" ولذلك سموا دولتهم هذه إسرائيل.
واسرائيل هو يعقوب أبوهم عليه السلام ومعنى إسرائيل عبد الله فهو اسم شريف
ناداهم الله به في هذه السورة ثلاث نداءات كلها نداء فيه تلطف وفيه ترغيب
وتحفيز إلى أن يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم وهذا الرسول العظيم الذي كان في
كتبهم إخبارٌ عنه (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (47)) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
(122)) ثلاث مرات في أول القصة وفي وسطها وفي آخرها كل ذلك رعايةٌ من الله
تعالى ودعوة لهم ولذلك قال تعالى عنهم (وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ
بِهِ (41)).
الأمر الثاني في سر إطالة هذه القصة قصة بني إسرائيل ذكرها بعض المفسرين
قالوا أن اليهود أمة ذات جمود عقلي، جامد العقل لا تكفيه الإشارة لا بد أن
تفصّل له ولا بد أن تؤكد عليه ولا بد أن تبين له فلا تكفيهم الإشارة فأراد
الله عز وجل أن يبين لهم كل البيان حتى لا يكون لهم حجة واليهود هم أهل
مراوغة وأهل جدل وأهل حيلة لذلك ذكر الله عز وجل هذه الصفات في هذه القصة.
أريد أن أسأل سؤالًا وعليه جائزة: ذكر الله تعالى في ثنايا قصة بني
إسرائيل قصة البقرة وسمى الله تعالى بها السورة، فما سر تسمية السورة
بالبقرة مع أنها من قصص بني إسرائيل وفي السورة ما هو أعظم من البقرة
الكرسي، قصة طالوت، تحويل القبلة، إبراهيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (124)) إلى غير ذلك فلماذا سميت هذه السورة بالبقرة
وذُكِرت فيها قصة البقرة؟ قد يقول قائل لأن قصة البقرة ذكرت فيها، صحيح لكن
هناك سر عظيم متعلق بهدف السورة وسياقها وهو إعداد هذه الأمة للخلافة
وتكليفها بالشريعة وأمرها بالتبليغ والدعوة. ما هذا المعنى العظيم الذي
نلتمسه من قصة البقرة العظيمة؟ تشير هذه القصة إلى موقف من مواقف بني
إسرائيل التي هي سبب سلب الخلافة منهم، لماذا سلب الله الخلافة منهم؟ لعدة
أمور منها عنادهم وقتلهم الأنبياء ومجادلتهم لكن هذه القصة تدل على صفة من
صفاتهم في تلقيهم لأوامر الله. ما سرّ ذكر هذه القصة؟ كأنها تحذير لهذه
الأمة من أن تشابه بني إسرائيل في تلقيها أوامر الله وتوجيه لهذه الأمة
المحمدية أن تتلقى أوامر الله عز وجل بالقبول والتسليم التام والمبادرة.
هذه القصة لها علاقة بالسورة كلها، كل السورة ستمر على أي حكم وأي آية
ستتذكر هذه القصة. هذه القصة تشير إلى موقف بني إسرائيل من تلقيهم شريعة
الله وأوامر الله، كيف تلقوها؟ انظروا إلى سفاهة هؤلاء القوم وسفولهم
ودناءتهم يوم أن قال موسى عليه السلام لهم (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً (67)) لم يقل أنا
آمركم وإنما قال (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً)،
ماذا قالوا عياذًا بالله؟ (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) موسى عليه
السلام إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ثم يقولون بدناءتهم أتتخذنا هزوا؟
قال موسى (قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67))
ثم لم يمتثلوا وقالوا (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا
هِيَ (68)) ثم لم يمتثلوا قالوا (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن
لَّنَا مَا لَوْنُهَا (69)) ثم لم يمتثلوا لما بينها ثم قالوا (قَالُواْ
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)) لما قالوا إنا إن
شاء الله لمهتدون بينها الله بياناً يكفي ثم ذبحوها. أرأيتم هذه الدناءة
وهذا السوء في تلقي أوامر الله؟! تردد وتلكؤ وتشدد فشدد الله عليهم. ولذلك
هذه السورة وهذه القصة تحذير لنا أمة الإسلام أن نتلقى أوامر الله وشريعة
الله بالتردد والتلكؤ والتشدد والتباطؤ وعدم الامتثال! ولذلك قال الله عز
وجل (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن
قَبْلُ (108)) لكن هذه الأمة المرحومة والله لقد رحمها الله قد تلقت كتاب
الله وشريعة الله في أكمل حال وأحسن تلقّي واستجابة وإيمان تام. ما أعظم
الله! وما أرحمه بهذه الأمة!! فهذه الأمة أمة القبول والتسليم لله عز وجل
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36) الأحزاب).
الدليل على خيرية هذه الأمة وكمالها في تلقي أوامر الله شهادة الله عز وجل
في آخر السورة. بعد أن بيّن الله عز وجل لهم تلك التشريعات العظيمة التي لا
يحملها إلا من هيأه الله لها، بعد هذا التعليم والتربية والاعداد
والتشريع، الله أكبر! تأتي الشهادة. تأتي الشهادة من الله عز وجل لهذه
الأمة، ما هذه الشهادة؟ شهادة نزلت من تحت العرش "أبشر بنورين أنزلهما الله
تعالى لم يؤتهما نبي قبلك" ما هاتان البشارتان؟ فاتحة الكتاب وخواتيم سورة
البقرة. كنز وفي رواية "كنز" وفي رواية "بنور" وهما والله كنز!. أليست
الشهادة التي يحصل عليها الطالب -ولله المثل الأعلى- كنز؟ أليست شرف؟ أليست
هي نتيجة جهد سنوات بعد التعب والدراسة والسنوات التي قضاها للتعليم؟ ثم
يأخذ الشهادة فيها خلاصة الأمر يتعين بها. هذه الشهادة جاءت من الله عز وجل
بقوله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ (285)) لاحظوا قوله (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ)، (مِن
رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) الله أكبر! شهادة للرسول وشهادة للمؤمنين أمة
محمد صلى الله عليه وسلم (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) كما فرّق بنو
إسرائيل. (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولم يقولوا سمعنا وأطعنا
وأننا يا ربنا قد كمُلنا في ديننا، ما قالوا كذلك! قالوا (غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) يعني يا ربنا مع أننا مستجيبين وممتثلين
ونسمع ونطيع إلا أننا بشر مذنبون مقصّرون فتب علينا واغفر لنا. فماذا قال
الله وهو الرحيم المعلّم؟ علمنا الدعاء ثم عفا عنا قال الله (لاَ يُكَلِّفُ
اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (286)) أي افعلوا ما استطعتم، اتقوا الله
ما استطعتم. الله أكبر! هذه الأمة رفع عنها الله الآصار رفع الله عنها
الأغلال والتشديد يوم أن أقبلت فمن أقبل على الله واستجاب لأمره يسّر الله
أمره (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) الليل) ما قال سنيسره لليسرى في كذا وكذا!
فسنيسره لليسرى، من أقبل على دين الله برغبة وبكل شوق وكل إيمان وبكل
طواعية وتذلل لله فوالله سييسر له الأمور كلها سيجد حياته مستقرة، سيجد
حياته في طعم وراحة وطمأنينة.
بعد هذه القصة، قصة بني إسرائيل الطويلة التي يختمها الله بندائهم (لعلهم
يرجعون) ولم يرجعوا، كم آمن من بني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم؟! مع هذه النداءات الطويلة والآيات الطويلة والنداءات والتحذيرات
والتأكيدات، كم آمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما آمن إلا أقل من
عشرة! أقل من عشرة آمنوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهدنا اليوم
ما زال اليهود معاندون، كم سمعنا من يهودي أسلم؟ والله ما أظني سمعت إلا
ثلاثة أو أربعة ولا أدري ما حالهم! لأنهم أمة غضبية غضب الله عليهم فكتب
عليهم الجمود لما شدّدوا شدّد الله عليهم، لما عاندوا زادهم الله عنادًا
وأضلهم وكتب عليهم الغضب (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ (7) الفاتحة) وأختم
أقول والله إن القرآن لمعجز حقًا وهو المعجزة الكاملة الخالدة التي ستبقى
لأمة الإسلام لو أن أمة الإسلام ارتبطت بكتاب الله عز وجل ارتباطا علميا
عمليا والله ستكون أعلى أمة في الأرض حتى في زمن التقنية والتكنولوجيا وعصر
الأفلاك وعصر تفجر المعلومات والله ستكون هذه الأمة أعظم أمة بهذا القرآن
كما قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) فصّلت) (أنّه) أي القرآن،
وكل يوم يكتشف العالم إعجازًا جديدًا فإذا القرآن يأتي ويبيّنه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتدبرين لكتابه العالمين به العاملين وأن
يفتح لنا من أبواب فهمه لكتابه وأن يجعلنا من أهله حقًا في الدنيا والآخرة
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وجزاكم الله خيرًا على صبركم وتحملكم وكتب
الله أجركم ورفع الله قدركم بالقرآن وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين.